كتبت خديجة حكيم : 23 أيلول… صرخة وطن بين القيامة والرجاء

لم يكن الثالث والعشرون من أيلول يوماً عابراً في تقويم لبنان الملطّخ بالحروب، بل كان جرحاً مفتوحاً على اتساعه، وزلزالاً اقتلع الطمأنينة من جذورها وشقّ القلوب قبل أن يشقّ الأرض. يومٌ بدا كقيامة مبكّرة، انهارت فيه أركان الدولة، وتعرّت فيه هشاشتها أمام مرآة قاسية لا ترحم.
فيروز في ذلك الصباح لم تكن تغنّي لصبحٍ جديد، بل كان صوتها ناقوساً يقرع في البعيد، كأنّه جرس موت يعلن الحقيقة المُرّة: أنتم بلا وطن. تحوّلت «عصفورة الشجن» من لحنٍ يغازل الصباحات إلى دمعة معلّقة في الهواء، إلى قدر نافذ يتردّد في كل حنجرة لبنانية بلا إرادة: نحن مثل عينَيك بلا وطن.
الطرق التي كانت تنبض بالحياة صارت مسارح موت صامتة. السيارات مصطفّة كنعوشٍ حديدية في جنازة بلا كاهن ولا صلاة. رجال يطرقون المقوَد بأيدٍ مرتجفة كأنّهم يطرقون جدران زنزانة، ونساء يُضمّمنَ أطفالهنّ إلى صدورهنّ كأنّها آخر حصن يحمي العالم من الفناء، وأطفال ملتصقون بزجاج النوافذ بعيون مذعورة كعصافير حُشرت في قفصٍ مشتعل.
أيلول الذي كان يحمل نسيم الليمون والزيتون، انقلب إلى خليط خانق من دخانٍ مرّ وبنزينٍ محترق وعرقٍ بارد يتصبّب من أجسادٍ ترتجف كأنّها تنتظر حكماً بالإعدام. الطائرات ملأت السماء هديراً أشبه بقرع الطبول في يوم القيامة، والدخان الأسود تمدّد ككفنٍ فوق الطرق، والعُيون المذعورة صارت شواهد قبورٍ تمشي على الأرض. وعلى الأرصفة جلس الشيوخ كأعمدة يأسٍ مرفوعة نحو السماء، وجوههم المجعّدة تقرأ تاريخ الخيانة والعجز والانكسار، وكل ارتجاف فيها صرخة تقول: كفى. وبين السيارات ركض الشبان كجنودٍ بلا رايات، يبحثون عن نافذة حياة، عن هواء نظيف، عن يدٍ ممدودة، لكنّهم اصطدموا بجدران دخانٍ كثيف وصمتٍ مطبق. وكنتُ أنا، ومعي كثير من أبناء ذلك النهار، من الذين تجرّعوا الكأس المُرّة حتى الثمالة: كأس الذلّ والانتظار والخذلان، بلا حولٍ ولا قوة.
كانت اللحظة أثقل من الدهر. انقطعت شبكات الهاتف كأنّها اقتُلعت من جذورها، صمتت الإذاعات كأنّها مسارح أُطفئت أنوارها فجأة، وتلاشى الأثير كأنّ لبنان بأسره انطفأ في عتمة كثيفة. في تلك اللحظة، وجدنا أنفسنا في مثلّثٍ معتمٍ بلا خرائط، بلا إحداثيات، بلا اتصالات. كأنّ الوطن أُلقي خارج الزمن، يهيم في فراغٍ مجهول لا بداية له ولا نهاية. لا إشارة تُرشد، ولا صوت يجيب، ولا يد تلوّح في العتمة. كأننا عالقون في برزخٍ بين الحياة والموت، بين وطنٍ كان ووطنٍ لم يَعُد. صار الوطن جزيرةً تصرخ وسط محيطٍ من جحيم: لا يدٌ تمتد، ولا أذن تصغي، ولا معنى يبقى. انهار الأمان وتبخّر معنى الدولة وتلاشى مفهوم الوطن. تبيّن أنّ ما كنا نُسمّيه دولة لم يكن إلّا شبحاً يتبخّر مع أول دخان، وأنّنا جميعاً رمادٌ يتطاير في الهواء.
واليوم، إذ تُستعاد الذكرى، لا لنبكي على أطلالها، بل لتُفجّر ما كتمناه طويلاً من ألمٍ غائرٍ في الصدور، علّنا ندرك أنّ هذا الوجع لم يكن عابراً، بل وصيّة ثقيلة، وديعة دمٍ ودمعة، لا تُحمل إلّا بأمانة. وفي لحظة الانطفاء الكبرى، واحتضار فكرة الوطن في النفوس، ما زلنا – مهما تعمّقت انقساماتنا – نؤمن أنّ الجيش وحده هو خطّ الأفق حين يتلاشى النور، والنبض الأخير حين يتوقّف الجسد.
فيا حارس الأرز، يا درع الكرامة، إنّ تلك الوجوه التي اسودّت بالرماد، وتلك القلوب التي ارتجفت تحت جنازير القيامة، وتلك العيون التي تصلّبت في الزحام، لا تنتظر من ساسةٍ ضلّوا في دهاليز مصالحهم. إنّها تنتظر منك الكلمة الفاصلة: أنّ الوطن لا يزال ممكناً. لكنّ رسالتك اليوم لا تقتصر على الحماية وحدها، بل هي دعوة لولادة ميثاق جديد، جامع وعادل، يليق بدماء الذين رحلوا ويُعيد للوطن معناه.
أنت لست حارس اللحظة فحسب، بل صانع الأفق الآتي، والراية التي لا تنكسر، والشاهد الذي ينهض ليقول للبنانيِّين جميعاً: إنّ الخلاص لن يولد من شتاتٍ ولا من انقسام، بل من يدٍ واحدة وقرارٍ واحد ومصيرٍ واحد يُكتب بالإرادة لا بالحبر.
يا وطني، أيها المصلوب على خشبة الانقسام، أيها المعلّق بين السماء والأرض، أيّها الباحث عن قيامة جديدة: نحن لم نعد نحتمل صمتاً يدفننا أحياء، ولا فجراً مؤجَّلاً إلى ما لا نهاية.
فانهض من تحت الركام، واحمل وجعك عهداً جديداً، وليكن الجيش، حارس الأرز، هو القسم الأخير الذي لا ينكسر، والشاهد على أنّ 23 أيلول تُذكَر ولا تُعاد.
الجمهورية





