الإعلامية أماني جحا و اجمل ما كتب : حين يُطوى العمر في نعش القائد

لم أكن أظن أنني سأعود إلى الكتابة مجددًا، بعد أن وارت الأيام قلمي تحت ركام الخيبات. ابتعدت عنها حين قررت أن أترك كل شيء خلفي، عندما غادرت لبنان إلى قطر، محملة بمرارة انتفاضة 17 تشرين، ومن بعدها ذلك الانفجار الذي ابتلع قلب بيروت في لحظة، وكأن الوطن الذي حلمتُ ببعثه من تحت الرماد، لم يكن سوى مقبرة واسعة مفتوحة على كل احتمالات الموت، من حادث سير إلى رصاصة طائشة، وليس انتهاءً بانفجارٍ يبتلع المدينة وسكانها في لحظة خاطفة.
لكني الآن أكتب، أعود إلى الكلمات كمن يعود إلى ركام منزله بعد القصف، ينبش بين الأنقاض بحثًا عن ذكرى لم تُسحق بعد. أكتب وأنا أدفن، لا نصرالله فحسب، بل جزءًا من نفسي معه. لم يكن مجرد قائد، كان العمر الذي عشته، والصراع الذي خضته، والحياة التي صرت إليها. وها أنا أقف على مشهد التشييع المهيب، أشعر أني أدفن عمري الماضي، وأنصب له ضريحًا إلى جوار مقام “السيد”، كما كنا نسمّيه، وكأنه لم يُلقّب غيره بها.
منذ السابع من أكتوبر، وأنا أعيش حربًا داخلية لا تهدأ. تخرج هذه الحرب في وجهي، تتفجّر في علاقتي مع من حولي، كقنبلة مؤجلة الانفجار، آخرها انفجرت بوجه ابنتي، تلك التي حملتها إلى مأمن بعيد عن عدوان إسرائيلي، متوهّمة أنني منحتها رفاهية لم تُكتب لي، وحقًا طبيعيًا دفعنا جميعًا ثمنه، كلٌّ بطريقته. لكن هذه اللحظة بالذات، وأنا أشاهد النعش المحمول على أكتاف الذين أحبّوه، قررت أن أكتب عن هذا الفصل الأخير، أن أوثّقه، أن أنصب له مقامًا في الذاكرة، كما لو أني أبحث لنفسي عن مخرج أخير من دوامة العمر.
نحن، أبناء هذا الجيل، نعرفه جيدًا. نصرالله ليس اسمًا عابرًا في حياتنا، بل هو ظلٌّ طويل امتدّ فوق أعمارنا جميعًا. أحببناه، خاصمناه، هتفنا له، وعارضناه، نعم احببته وعارضته، ولو عاد بي الزمن لفعلت الشيء نفسه، وهو كان هناك دائمًا، حاضرًا في وعينا، حتى حين حاولنا الفرار من أثره.
كنتُ طفلة حين استُشهد السيد عباس الموسوي، وقررت الأمانة العامة لحزب الله اختيار السيد حسن نصرالله كأمين عام خلفاً له. حينها، كنتُ قد بلغت العاشرة من عمري ولم يكن لي سابقاً وعيٌ سياسيٌّ متكامل؛ إنما كان وعيًا عايشته بفعل جغرافية مولدي، فأنا ابنة طيرحرفا، القرية الحدودية الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي. عرفتُ نفسي آنذاك كجنوبية أعبر حاجز الحمرا؛ فتنطلق رحلتي من الضاحية عند السادسة صباحًا إلى ساحة البص في صور، حيث تنتظرنا السيارات المرخّصة للدخول إلى الشريط المحتل، ونصل إلى الحاجز ما بين الحادية عشر والثانية عشرة. وهناك، تبدأ مشاعر الخوف والحقد تتأجج تجاه من يقف أمام الحاجز.
تنتهي رحلة الحواجز والتفتيش عند الثالثة أو الرابعة عصرًا، ننطلق نحو قرانا، نعبر التلال التي أقام عليها الإسرائيليون مواقع للتربص بأهالي الأرض. تمرّ الدورية الإسرائيلية لتفتيش البيوت، تلك التفتيشات العشوائية ا يرتدون فيها بدلاتهم ويحملون أسلحتهم، ويتحركون بأحذيتهم الضخمة حولنا، فيزداد في قلبي الحقد والغضب.
ومن بين ذكريات تلك المرحلة، عمتي التي لم تعرِف القراءة والكتابة؛ كانت تضع الطعام على أطراف الأرض المحيطة بالمنزل، قائلة: “قد يمر أحد الشباب” في إشارة إلى شباب المقاومة، ربما يكون جائعًا فيجد ما يُشبع جوعه. كانت تلك الصورة بالنسبة لي بمثابة أول تجليات المقاومة، فعمتي لم تكن تدرك ما معنى الافكار اليساريه بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية – التي كانت رفاهية المتعلمين والمثقفين – ولم تكن تميل فكر الإسلام السياسي، الذي كان في بداية ظهوره في لبنان، ولم تكن متدينة بمعرفة مطلعة على الدين؛ عمتي كانت أقرب إلى أهل القرى البسطاء الذين وجدوا في موسى الصدر ملاذاً لمن يطالب بحق حمل السلاح لمقاومة الاحتلال.
عرفتُ نفسي كشيعية باحثة عن مفهوم شيعيتها وسط تخبط كل شيء؛ أعرفها ببساطة في معاني الله، ومحمد، وعلي، والحسين، وزينب.
كبرتُ، وبدأ وعيي السياسي يتشكّل بعيدًا عن أسر الطائفة والموروث، منذ إسقاط النظام الطائفي عام 2011، إلى مظاهرات 2015، وصولًا إلى انتفاضة 17 تشرين. كنت أعتقد أنني تحررت من الانتماء الأول، لكنني كنت لا أزال مسجونة داخله دون أن أدري. حتى 2015، كنت أظن أنني محاصرة داخل الحرب التي تُشنّ على الشيعة، وأنني سأُقتل على الهوية، حتى لو لم أكن ملتزمة دينيًا. كنت أرى في حزب الله سدًّا يحفظ وجودي أمام عالم معادٍ، لكني في لحظة فاصلة، وبوعيّ حقيقي بدأتُ أشكّك في كل شيء، حين قلتُ للمرة الأولى: “للسوريين الحق في تقرير مصيرهم، وإن الوقوف مع بشار الأسد خطيئة، وإن تدخّل حزب الله في سوريا كان كارثة”.
لكن رغم كل شيء، لا يمكنني أن أنكر كيف بُني وعيي الأول. عشتُ حرب 1993، و1996، وكنتُ هناك يوم تحرير 2000، لحظة الانتصار الأسطوري التي غرست في داخلي فكرة أن المقاومة قدرٌ لا مفرّ منه. ثم جاءت 2006، الحرب التي عشتها عن بُعد، بين العمل ومكالمات الأهل من الجنوب.
كنت أسأل نفسي دائمًا: هل أعيشها كحربٍ تخصّني؟ أم أن جغرافيتي البعيدة تضعني في موقع المتفرّج؟ لكنني كنتُ هناك، بروحي، حيث كان أبي وأمي وأخوتي وأرضي. كنتُ هناك في “جمهوريتي” الخاصة: الجنوب، في دولتي التي اخترعتها لنفسي: جبل عامل. لم أعد أرى لبنان وطنًا، كان الجنوب هو الحقيقة الوحيدة التي أؤمن بها، وما عداه مجرّد جغرافيا لا تعنيني.
ثم جاءت 2019، لحظة مفصلية في علاقتي بنصرالله. رأيته خصمًا مباشرًا في نظام طائفي خانق. رأيت أن حزب الله، الذي رفع راية المقاومة، صار شريكًا في السلطة التي تُمعن في إذلالنا. هتفتُ مع المنتفضين: “كلّن يعني كلّن”، ولم أستثنه. كنت أريد وطنًا يشبه حلمي، وكنت أرى أن الحزب يقف في طريقه، دون أن أتجاهل دوره في مواجهة الاحتلال. لكنّني وجدت نفسي متّهمة من الجميع، إمّا أنني ثائرةٌ لحزب الله في نظر من حوّلوا عداءهم له إلى أيديولوجيا، أو أنني خائنة لبيئتي في نظر من يرون كل انتقادٍ للحزب كطعنةٍ في ظهر المقاومة.
ثم جاء السابع من أكتوبر. صفعةٌ مزّقت كل قناعاتي السابقة. أعادني إلى الجذر الأول، إلى تلك الطفلة في طيرحرفا، التي كانت ترمق الجندي الإسرائيلي بنظرة ملؤها الغضب والحنق. في تلك اللحظة، وقف نصرالله مجددًا وقال “لا”، فبدا لي صوته كصرخة الحسين في وجه يزيد. لم أعد أرى معادلات السياسة وتعقيداتها، رأيت فقط الحقّ في مواجهة الطغيان، والدم في مواجهة السيف، والمقاومة في وجه الإبادة.
رغم كل سوء التقدير والتوقيت، رغم العواقب التي لم تُحسب جيدًا، وقف الرجل حيث يجب أن يكون، في الخطوط الأمامية للمعركة الكبرى. وقف إلى جانب غزة، ثم وجد المعركة تنتقل إلى داره، إلى جنوب لبنان، إلى بيروت. إسرائيل لم تكتفِ باستهداف مقاتليه، بل قررت أن تحسم الأمر نهائيًا، بثمانين طنًا من المتفجرات، نسفت بها جسده. قتلت بعده هاشم صفي الدين، وسحقت قيادات الصف الأول والثاني، كأنها تحاول أن تُجهز على كلّ ما تبقى من مقاومة في هذا العالم.
واليوم، تقف المنطقة كلها على أعتاب تحوّل جديد، ربما سايكس بيكو آخر، ربما شيء أسوأ. كلّ ما نعرفه يتغير، وكلّ ما نظنه ثابتًا يتحلل أمام أعيننا.
خرج نعش نصرالله على وقع صوته: “يا أشرف الناس”، وهو لم يكن يجامل، هم فعلًا أشرف الناس، أولئك الذين وقفوا رغم كل شيء، رغم الجراح والمجازر والطائرات التي كانت تحوم فوق رؤوسهم حتى في جنازته. أرادت إسرائيل أن تسرق المشهد، لكن الناس صرخوا في وجهها:
خسرنا نصرالله، ولم يعد هناك ما نخسره أكثر.
رحل في واحدة من أشرف المعارك وأقساها، رحل في زمن الإبادة، حيث ستين ألف شهيد في غزة، وأرض تحترق بمن فيها، وعالم يصفّق للمجزرة.
بكيتُ حسن نصرالله، بكيتُ الجنوبي البسيط، ابن عبد الكريم، الرجل الذي يشبه أهله: بسطاء لكن جبال، فقراء لكن ملوك. بكيتُ لأجلنا، نحن الذين حلمنا بوطنٍ مختلف،، وقد خذلنا أنفسنا بدفنه وكنت اتمنى ان نثبت له ان رؤيتنا لوطن مختلف ممكنة.
بكيتُ الصوت الذي لطالما صدح بوجه القوى العظمى، وانحنى أمام أمهات الشهداء. بكيتُ “هادي”، ابنه الذي قدّمه للوطن كما يفعل كل أهل الجنوب، بلا استثناء. بكيتُ دخول سوريا وتمنيت لو انها لم تكن، يا ليتها لم تكن. بكيتُ، لأن جزءًا مني دُفن معه، ولأن حقبة كاملة من عمري انتهت مع هذا التشييع الأخير.
لكنّني أدرك الآن، أنني أبدأ من جديد. طويتُ هذه الصفحة، وأغلقتُ هذا الكتاب، وفتحتُ آخر، لا أعلم ما الذي ينتظرني فيه، لكنني أعلم أنني، ككل الجنوبيين، وككل الفلسطينيين، ولدتُ في هذه الحياة لأحمل أوجاعها، وأمضي.
رقد السيد في مقامه الاخير ومعه مرحلة عمرية كاملة وانا اردد هذه الجمل الاخيرة :
، تَبكي الناس أحبابَها، زَيتونَها، أرضها، بيوتَها.
تَندُب الناس جُرحَها، حظّها العاثر في جغرافيا لعينة وقلوب شامِتة ميتَة.
ستَبكي الناس السيد
وستَندب الأمهات ألافاً إضافيّة من الشهداء.
ستُضاف هذه النكبة إلى كتاب المآسي العامليّة
وسَتَقف زينَب أمام دبابة الظالِم
“..والله لَن تمحو ذِكرَنا”